تحليلات

عودة مسألة صوماليلاند إلى الواجهة من جديد (3)

مراجعة في الاشكاليات المعيقة لتحقيق الاعتراف

من جديد، تعود قضية سعي صوماليلاند (نستخدم هرجيسا فيما بعد باعتبار رمزيتها ) إلى واجهة منصات الإعلام المتماهي بشأنها باستمرار. والجديد في هذه المرّة، هو: إشارة رئيس ترمب الأخيرة: ” بأن بلاده  تمسك بالمبادرة… وتعمل عليها الآن ”  في القضية، واصفا إياها بأنها “حالة أخرى معقّدة ” وتكثيف الإدارة الجديدة مساعيها الموجهّة نحو تحقيق الاعتراف وتواصلها بأكثر من 130 دولة في العالم بهذا الخصوص. ومن المعلوم على أن مشروع  بحث هرجيسا للاعتراف يقوم على المنجزات المشهودة  الذي حققته في مجالات الأمن والاستقرار والتنمية إلى حدّما وكذلك عقد الانتخابات الحزبية السلمية والانتقال السلمي للسلطة، وتعلن أنها سابقا، كانت محمية بريطانية (1889-1960) توحّدت بالصومالي الجنوبي طواعية، واستعادت قرار اتحادها مع الجنوب بعد تلقيها منغصات دافعة إلى اتخاذ هذه الخطوة الأحادية ولديها ما يمكن تقديمه إلى شركائها الحاليين والمحتملين في المشروع، مما يعني أنها تريد اتخاذ مسار معاكس تماما على مسار الوحدة التي عاشت معه في العقود الثلاثة المتوالية ماقبل الانهيار.
ومساعي هرجيسا في نيل الاعتراف، بدأت مع بداية الانفصال الأحادي الجانب من الصومال في مايو عام 1991، ومن بعدها، كانت الإدارات الستة المتعاقبة في الحكم على حالة تواصل مستمر مع القوى الغربية الفاعلة بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهم المعتمدين في منطقة الشرق الأوسط وكذلك شركائها الرئيسيين في القارة الإفريقية ببراجماتية مخجلة، وفي كثير من الأحيان، اعتبرت غياب أوضعف الدولة المركزية فرصة مواتية تعطي لها التبرير الكافي في الحصول على الاعتراف، وسيساهم بقوة في جهود محاربة الإرهاب المتنامية في منطقة القرن الإفريقي . ويبدو أن الأسس والفرضيات التي تقوم عليها مساعي البحث عن الاعتراف لم تخضع بعد إلى فحص موضوعي تضع السردية المحورية في مسعى الاعتراف تحت المختبر المحايد وتعطي للمهتمين على القضية صورة كلّية بعيدا عن الطروحات السياسية الطاغية على ماسواها، ومن ثمُ، فانه غالبا ما يجد المتابع بشأنها وجود فجوات في حلقة الاتصال بين الحقائق التاريخية في القضية والسردية السياسية المقدمة وبالذات في مسائل البصمة الاستعمارية في القضية وقاعدة تقاسم السلطة في فترة ما بعد الوحدة وحجم القهر والدمار المادي الذي لحق بها جراء الحكم العسكري الفردي السائد في البلاد وليس بوقوعها، وتوافق المكونات العشائرية الرئيسية الخمسة في مسعى الانفصال ذاته، بالإضافة إلى التوقف عند طريقة تعامل الإدارات المختلفة مع الرويات التاريخية مثل المصادقة على ميثاق الوحدة بين القطرين سابقا وتوظيفها السياسي في مبدء حق تقرير المصير الدولي، وذلك باعتبار أن كل ذلك يشكل الخطوط الأساسية في مسعاها القائم والمستمر .
والمقال هذا، هو عبارة عن محاولة اجتهادية فردية لمراجعة الاشكاليات المحيطة على قضية هرجيسا منذ بداياتها المبكرة   والفحص على دقة السرديات السياسية بالأساس التي سوغّت لمشروعها السياسي ورصد الجهود المتكاملة التي مع بذلها المستمر لم تحقق بعد إلى نتائج متقدمة ، ومن ثمّ، يقدّم المقال بعض الأجوبة عن طبيعة تلك الاشكاليات  الخاصة على القضية ويتوقف عند الجذور في استمرارية الوضع الاستاتيكي القائم في المسألة مع صرف موارد مالية هائلة في اتجاهات مختلفة واتخاذ مسارات متعرجة لم تخلو في بعض الأحيان بالتمويه على الجمهور المحلي وتميزت بالمضي قدما إلى مالانهاية دون الالتفات إلى الوراء والتصلب في المواقف على طاولة المفاوضات وذلك على الرغم من وجود مآسي حقيقية دافعة نحو التراجع عن حماسة الوحدة وحالات سياسية يوجد فيما بينهم قواسم مشتركة دون أن تكون هناك بالضرورة تماثل في التطور أوتطابق في الطبيعة. وتشمل تلك الإشكاليات وجود تمايز بين قضيتها وبين قضايا مثل إريتريا وجنوب السودان التي تعتقد أن بينهما مشتركات وعجز الأنظمة السابقة في الاحتواء المبكرعليها، واتخاذ قرارا أحادي الجانب من الصومال عام 1991 وثانوية دور حكم الاستعمار البريطاني الماكر في خلق الحالة المعقّدة القائمة بين هرجيسا ومقديشو وشبه انعدام إطار عام متفق عليه بينهما في جولات المفاوضات الـ 10 التي خلقت حيرة مجتمعية أكثر مما خلفت أساس حلول عملية في المرحلة المقبلة.

بصمة استعمارية وليس فقط بصمة صومالية

كثير من الإشكالات التي أدت إلى متاعب الاندماج المتكامل بين القطرين لم تكن سببه سوء الإدارة على قضية الاتحاد فيما بين الشمال والجنوب بقدر ماكان الاستعمار البريطاني الحاكم للمنطقة الشمالية عاملا رئيسيا في صناعتها. والاستعمار البريطاني  كرّس لأوضاع معينة جعل من الصعوبة على أهل الشمال استمراريتهم في البقاء تحت سلطته والقناعة على الوحدة بين القطرين، ونتج من فترة حكمه (73سنة) فقدان أكثر من الثلث في أراضيها ( 25000م2 ) من أصل 68000م2 تبلغها المساحة الإجمالية في المنطقة نتيجة منحه لإثيوبيا عام 1954 خلسة، ووفاة أكثر من الثلث من السكان بسبب الأمراض المنتقلة عن طريق حركة جيوشه المتعددة الجنسيات إلى جانب تراجع عدد السكان والتدهور البيئي مع كثرة الحروب  الداخلية وإفقار( Destitute) المحتمع وانتقال أهمية موانئ المنطقة بأكملها إلى جيبوتي، بالإضافة إلى جعله اقتصاد المنطقة من اقتصاد قائم على الإنتاج الريفي  والتجارة الحضرية إلى اقتصاد مرتكز على الخدمات ومشاريع التنمية المعمولة في المراكز الحضرية، ناهيك عن التداعيات الناجمة من صناعة الحدود السياسية وتقييدها على حركة الأحياء تجاه مناطق الرعي في منطقة هود والأراضي المحجوزة والانتقال البيني للأقارب وطبقة التجار التي كانت لها ضرورة اقتصادية لاغنى عنها حتى تحولت المنطقة كلها إلى منطقة تعصف به الرياح بعد أن كانت منطقة مزدهرة في اقتصادها ومنتجة على جغرافيتها الطبيعية المتنوعة ما بين سهل بحري، ومنطقة رعوية تتوسطها منطقة جبلية وهضبة داخلية .وسابقا، كانت المنطقة الشمالية الوحيدة من بين المحميات على مستوى إفريقيا الشرقية التي توافر عندها فائضا ماليا كبيرا في خزينتها وتدفع بنفسها جميع النفقات الخاصة على حمايتها ومرتبطة بعلاقة تجارية مع بلدان تشمل عدن والهند وبلاد الحرمين، وبلاد الفرس وانجلترا، وأن معظم المواد التجارية الرائجة في سوق عدن في فترة ماقبل الحكم الاستعماري البريطاني؛ كان مصدرها من هرجيسا، وكانت تصدر باستمرار منتجات مختلفة تشمل الانتاج الزراعي بأنواعها المختلفة والحيواني ومشتقاتها المتنوعة إلى جانب المعادن والذهب واللولؤ والمرّ والعاج والصمغ والفيلة والأخشاب وغيرها من المعادن النفيسة، ويتم تصديرها عبر مواني مختلفة أهمها ميناء بلهار وبربرة  التي وصفها Richard Burton   بـ ” ملتقى التجارة في شرق إفريقيا ” وعن طريق سفن وبواخر مملوكة  للصوماليين  .
وقد يكون التعليم مؤشرا بذلك، حيث قامت بريطانيا على نشر تعليم مؤطر بأهداف وظائفية فقط أكثر مما كانت له غايات معرفية بسبب تخوفها على ” المخاطر المصاحبة على إنشاء طبقة متعلمة بين عرق يتمتع بذكاء شديد وسرعة البديهة مثل الصوماليين” على حد وصفهم ….. as aware of the “manifold dangers that must attend the creation of a literate class among a highly intelligent and quick-witted race such as the Somalis”. ومن اللافت للنظر على أن التعليم السائد في فترة حمايته كان مستهدفا إلى إنتاج قطاعات خدمية أكثر استجابة في سياساته وإنتاج أعداد يقوم على الحرف والمهن المساعدة على مهمة وجوده الاستعمارية مثل النجارة والترجمة والبناء والميكانيكية والسكرتاريات وتقلّل الفاتورة المالية السنوية بالإضافة إلى ترسيخ الهيمية الاستعمارية وتغيير الثقافة الأصلية للمجتمع، وامتصاص روح المنّاعة، أوبمعنى أكثر دقة، فان الحامي البريطاني، كان يريد بناء علاقة أفضل بكثير بين الإدارة البريطانية والشعب عن طريق انتاج طبقة متحرّرة  ومحدودة العدد، وتعتبر التعليم الغربي الطريق الأوحد للالتحاق بالحداثة المعاصرة وغير فخورة  بانتمائها الثقافي.
ومن المفارقة، أن منح بريطانيا منطقة هود والأراضي المحجوزة لإثيوبيا يتعارض مع معاهدات الحماية التي وقعها مع القبائل الخمسة الرئيسية في المنطقة في بداية عهده، وجميعها ينص على حماية المنطقة وتعهدها بعدم بيع أو التنازل عن أي جزء من أراضي شعب شمال الصومال. ومنطقة هود والأراضي المحجوزة بالذات، كانت تمثل عصب الاقتصاد في المنطقة الشمالية برمتها نتيجة وفرة الموارد الطبيعية فيها، بحيث كان الرعاة يأخذون بها إلى مواشيهم موسمين في السنة، ونتج من هذا المنح تقييد إثيوبيا على الحركة الطبيعية للأحياء  وفرضها  على آتاوات مجحفة، ونهبها على المواشي مما وضع السكان بين العسف الإثيوبي المتزايد  بممتلكاتهم  الخاصة واستباحة قوات “الدراويش” على مواشيهم ودفع غالبية سكان المنطقة إلى النزوح نحو منطقة الهضبة الداخلية، الأمر الذي سبب تدهورا بيئيا متزايدا،  وتآكلا في التربة وفقرا في القطاعات الريفية في المجتمع ودورة جفاف متكررة من حين لآخر نتيجة تكدس الأحياء وحدوث الرعي الجائر ((overgrazing  في مساحة أضيق وأقل مواردا وجعل حياة السكان حياة بؤس مريعة “atrocious misery” على حد وصف رجال المحمية أنفسهم .
ومحمية صوماليلاند، كانت من بين 25 منطقة كانت بريطانيا تريد تبعيتها لبريطانيا العظمى في المستقبل المنظور، ومنح الحكم الذاتي لها كان مجدولاعام 1965، كما أن صوملة الوظائف الرئيسية كانت مقرّرة في عام 1960، ولم يكن هدفها الأساسي سوى حماية مصادر إمدادات اللحوم لحامية عدن ومنع أي قوة أخرى الوصول في المنطقة بعد الانسحاب المصري المتسرع منها عام 1884، ومن ثمّ كانت اهتماتها منحصرة في مسائل الخارجية والأمنية والدفاع وكذلك القضاء على مصادر المنّاعة ومنابع المقاومة وليس عن الالتزام على معاهدات الحماية الموقعة من عندها ودفع مجالات التنمية وبالذات البشرية منها، وإن إهماله على التنمية البشرية متجسّد على كثرة الوفيات التي بلغت ما بين 1900-1920 وحدها في حدود 200000 حالة نتيجة انتشار أمراضها المنقولة عبر جيوشها المكونة من جنسيات بريطانية وهندية وعربية وشرق إفريقية وكذلك محدودية المرافق التعليمية ومستوى التعليم لأول خمسة وزراء صوماليين في المحمية 1960، حيث كان أحمد حاج دعالى  (وزيرالموارد الطبيعية) هو الوحيد الذي كان يحمل شهادة جامعية والبقية كانت عندهم شهادات ثانوية وإعدادية وربما دبلومات.
وبربطانيا، كانت تتفق وتتعاهد مع إثيوبيا بالاستيلاء والزحف نحو الأراضي الصومالية الغربية منذ البداية مقابل تعاونها في ملف أعالي النيل الأكثر أهمية بالنسبة لها وتفاوضت مع إثيوبيا بمنحها منفذا بحريا في إحدى المواني التابعة لمحافظة أوذل الحالية بعد رفضها على منح منفذ آخر في مياه المحيط الهندي في جنوب غرب الصومال وسعت إلى اجهاض التقدم في التفاعلات المتنامية بين القوى السياسية في الجنوب والشمال الهادفة إلى تحقيق الوحدة، وطلبت من إيطاليا تأخير موعد الاستقلال في الجنوب، المقرر في 1 يوليو إلى موعد غيرمحدّد، ومن ثمّ انبثقت رغبة الوحدة من أطياف المجتمع المدني المتضررة من وجود الاستعمار بدرجة أكثر من النخبة السياسية غير الممانعة على التعاون معه في الاستمرار على حكم البلاد. وتشمل تلك الأطياف الأدباء والشعراء وأصحاب الفن والمسرح والتجمعات المهنية وكذلك العاملين في مجال الإعلام إلى جانب العلماء والتجار لأنهم  فقدوا 36.7% من أرضهم الأكثر خصوبة في المرعى، ومات أبنائهم في الأمراض المعدية عبر جيوشه المتنقلة، وهلك الحامي ذريتهم في حروب عدمية داخلية وخارجية، وخسروا رموزهم البارزة في المقاومة معه، وحوّلهم من مجتمع ديناميكي متمتع بوعي وطني جمهوري إلى آخر منهك مقطوع الأوصال ومنزوع الإرادة الجماعية في محاربة الاستعمار ومتعدد في ثقافاته المجتمعية ومتعادي فيما بين مكوناته العشائرية الحمسة ومهاجر إلى بلدان كانوا يذهبون إليها على صورة  التجار ورجال الأعمال ومستهلك على منتجات بلدان هو كان يصدرها سابقا حتى تراجعت القيمة الإجمالية لحركة التجارة في عهده في حدود 60%، وعمل باستمرارعلى تغيير ثقافتهم المحافظة المعادية على الاحتلال على أراضيهم  واستبدالها بأخرى متقبّلة على  وجوده غير المحدّد زمنيا.
وجاءت الوحدة والاستقلال المترابطين مسبقا والمنطقة كلها تئنّ من معاناة عميقة الجذور ومتشعبة في أبعادها  الجغرافية والديموجرافية والاقتصادية وكذلك الثقافية التي الحقت بهم جميعا في فترة وجود الاستعمار، وعجزت حكومة الوحدة في التعامل على استدراك حجم الجرائم السياسية الكثيرة وطبيعة الفظائع التي ارتكبتها بريطانيا ضد سكان المنطقة الشمالية، مما يعني فان الحالة القائمة بين هرجيسا ومقديشو لها امتدادات تاريخية واستعمارية معقدة عمّقها النظام العسكري في وجودها دون أن تكون هو صانعها  الحقيقي، وإن موافقتها على تسهيل الوحدة بين القطر الشمالي والجنوبي لم يكن هدايا مجانية بقدر ماكان محاولة ماكرة على إخفاء بصمة جرائمها المتعددة الخالدة في الشمال وذلك باقتراح قدمه وزيرLennoz-boyd المحافظ، وبالتأكيد تمثل ولادة ولاية شمال الشرق الجديدة ضمن الحدود السابقة للمحمية هو وجها من وجوهها، والتباين العكسي في الموقف السياسي شبه الدائم بين النخبة السياسية المتقدمة في العمر وأطياف المجتمع المدني تجاه مسألة الوحدة المجتمعية للصوماليين هو صورة مجسّدة على الثقافة التي كرّسها الوجود البريطاني في المنطقة .

القرار الأحادي  في الانفصال

أعلنت صومالاند انفصالها الأحادي عن بقية الصومال في مايو عام 1991، أي بعد أريعة أشهر فقط من إنهيار الحكومة المركزية في الصومال. ورغم أن الانفصال الأحادي، جاء بعملية تشاورية  بين بعض السياسين وزعماء العشائر انعقدت  في مدن مختلفة  في الشمال؛ إلا أنه لم يكن هدفا رئيسيا حاربته جبهة الحركة الوطنية الصومالية المعروف باسمSNM  من أجله منذ التأسيس عام 1981م في لندن. والهدف المعلن للحركة طوال فترة حربها، كان يهدف إلى مواجهة القهر المستمر في المنطقة الشمالية ، والسعي إلى تغيير نظام الحكم في البلاد  والمساهمة في بناء نظام وطني بديل عن النظام العسكري الفردي. ولوكان هدف الحركة أوSNM  انفصاليا من الأول ماكان في أعضائها المؤسسين شخصيات وطنية منحدرة من الجنوب ، ولم يوجد من بينها كذلك آخرون كانت لهم مساهمات فاعلة في عملية النضال العسكري وليس فقط السياسي ضد إسقاط النظام. والشعار الجامع بين تلك الأعضاء في الحركات والجبهات المسلحة جميعا، هو نضالهم المشترك ضد هدف موحد وهو إسقاط النظام رغم التباين في العضوية العددية العشائرية أوالمناطقية بين حركة أوجبهة دون أخرى ومواجهة القهر المشمول على امتداد البلاد الذي تفاوتت درجات عنفه مع تباين قدرة الجبهات ذاتها في المواجهة الميدانية وتوافر الحضانات الشعبية.
والانفصال لم يكن محل وفاق وإجماع لا من بين أعضاء الحركة ولا العشائر الرئيسية القاطنة في المنطقة الشمالية مطلقا رغم وجودها المعلن من بعض الشرائح في مجتمع المنطقة أوكثرتها في منطقة دون أخرى، وكثير من اللذين تماشوامعه، كانوا يدركون هوّة الفراغ الناتج من انهيار النظام السريع، وعجز الحكومة المعلنة في مقديشو قدرتها على التعامل المبكّر مع التحديات المتشعبة التي خلفها الحكم العسكري الحاكم في البلاد بشكل عام وبالذات المنطقة الشمالية باعتبارها منطقة عمليات عسكرية من وجهة النظر النظام منذ 1985م وبالتالي، كانوا يرون المسايرة مع مسار الانفصال الجديد حلا انتقاليا يحافظ على الاستقرارالعام المنشود على الأقل ويقوي كذلك موقفها التفاوضي في مرحلة الحوار الوطني  في المرحلة التالية. ويبدو أن هناك علاقة بين التسّرع في إعلان الحكومة في مقديشو بعد الانهيار وإعلان الانفصال في الشمال في مايو، حيث اعتبرت القوى السياسية المتمثلة بـ SNM  بهذ الإعلان تسّرعا شبيها إلى تجربة يوليو نفسها 1960 خصوصا بعد إعادة تعيين رئيس علي مهدي الموقت آخر رئيس وزراء للنظام بالمنصب ذاته في يوليو 1991م وعدم أخذه في الاعتبار أهمية التنسيق مع قادة الجبهات باعتبارها القوة السياسية البديلة عن قوة النظام المركزي عند تشكيله للحكومة، مما يعني فان الانفصال ناتج من تضافر عوامل منعكسة على خطف الجناح المتشدد مصير قيادة الحركة واستياء القوى المدنية السياسية المعتدلة عن التسرع غير المستوعب بما يكفي على معطيات الواقع الميداني ذات الطابع الجبهوي في مقديشو، ومن ثمّ، فان الإشكالية هنا تبدو نشوء خط انفصالي جديد مناقض للهدف التأسيسي للحركة وغير وارد في مفردات خطاباتها السياسية ماقبل إعلان الانفصال واستعجله الفراغ الناجم من الانهيار المبكر للنظام وساعدته كذلك التباطؤ في المعافاة من تبعات الانهيار، وبالتالي يواجه المتابع في القضية إشكالية تحديد من يريد الانفصال؟ وعلى أي أساس يبني إرادته تلك؟ وماهي الحقوق السياسية والخيار المتاحتين أمام اللذين لا يوافقون؟ وماهي الجهة المستقلة ذات المصداقية التي حققت خريطة المواقف والنسب بين وجهات النظر المختلفة  في القضية

غياب قابلية المقارنة رغم وجود بعض السمات المشتركة

المقاربات التي تعتمد عليها هرجيسا في تحقيق الاعتراف لاتتوافر في أغلبها أوجه المقاربة أو قاعدة المقارنة مع وجود سمات مشتركة عديدة متمثلة على التقارب على المساحة الأرضية وعدد السكان بالنسبة للدولة الأصلية ووجود القيمة الاستراتيجية لموقعهم الجغرافي وارتكاب فظائع سابقة وكذلك وجود بصمة بريطانية سابقة وأمريكية لاحقة. وقد تكون قضية استقلال إرتيريا وفصل السوادن عن جنوب السودان وكذلك قضية كوسوفو وتيمور الشرقية هم الأكثر استرشادا أو استدلالا في هذ الإتجاه. وأريتريا نالت اعترافها بناء على اتفاقيات رسمية ناتجة من وساطة أطراف دولية من بينها واشنطن، واستفتاء شعبي معلوم  من إثيوبيا الدولة تمّ برعاية من الأمم المتحدة عام 1993م، واستقلالها، كان عبارة عن إخماد جبهة نار مشتعلة بينها وبين إثيوبيا دفعت إلى الجهات الدولية الفاعلة ضرورة القيام بتسوية سياسية محددّة المعالم، وتوافق على استقلالها جميع الدول الأعضاء  في الأمم المتحدة وذلك بعد دمج قسري فرضتها إثيوبيا عام 1962عليها وأدى إلى إلغاء الحكم الذاتي القائم في أسمرة في فترة ماقبل الاتحاد معها، وهو ماكان مجانبا على مضمون القرار الصادر من الأمم المتحدة (390 (ت)) عام 1952م المفصّل على طريقة التوفيق بين المطالب الإثيوبية والسيادة الإريترية على أراضيها  .
وكان القرارالأممي يدعو بين الجانبين إلى اتحاد فيدرالي يحافظ لارتيريا حكمها الذاتي، وتعيين مندوب للأمم المتحدة يكفل تنفيذ قرارها، وبالتالي، كانت الحالة في استقلال إريتريا عبارة عن ثورة  شعبية محاربة على قوة محتلة على أرضها، متمسكة على حقوق منصوصة في قرار دولي معتمد، وتسعى إلى استعادة حق مهدّر لايختلف عليه الاثنان على الطربقة التي تنصلت بها إثيوبيا، ويتفق أصحاب القضية  على هدفهم  الرئيسي الجامع الذي هو تحقيق الاستقلال في ثورتهم المسلحة، ونفس الشيء يمكن قوله في الحالة بين السودان وجنوب السوادان مع وجود فارق بين الحالتين، حيث أنه في حالة جنوب السودان، كان هناك تمايزات أساسية  إثنية ودينية أكثر بين  الشمال والجنوب من البداية، بالمقارنة بين إثيوبيا وأريتريا وميولا انفصالية مبكّرة كرّسها الاستعمار البريطاني قبل الاستقلال بكثير وتوافقا سياسيا على مرور مرحلة انتقالية مدتها 6 سنوات يعقب بعدها استفتاء لمواطني الجنوب لتقرير مصيرهم  بالبقاء فى إطار الوحدة أوالانفصال عن السودان وذلك وفقا لاتفاقية نيفاشا الموقعة عام2005.
وأما قضيي كوسوفو التي استقلت عن صربيا 2008 وتيمور الشرقية عن اندونيسيا 1999م فكانا يمثلان أقليات دينية وعرقية تعيش بين أغلبية مسلمة بالنسبة لاندونيسيا ومسيحية بالنسبة لصربيا وتعرضتا للعنف الوحشي والمجازر المدونة تفاصيلها بدقة متناهية، واستدعى ذلك تدخل الأمم المتحدة للحالتين للوقوف أمام آلة القوة المعتدية وانقاذ وجودهم القديم في منطقتهم، وقاد هذ التدخل الأممي لاحقا إلى ترتيبات سياسية بين الطرفين بدأت بالاتفاق بينهما على منح الحكم الذاتي للإقليمين وانتهت إلى إجراء استفتاء شعبي عام قاد إلى استقلال الدولتين أخيرا. وتشترك الحالات الأربعة جميعها وجود قوة احتلال مسبق    على طموح الاعتراف، وتمايزات عرقية ودينية بارزة، ومرورمرحلة حكم ذاتي مسبق متوافق عليه بين الطرفين وبرعاية أممية في المرحلة الانتقالية انتهت بالاستفتاء العام والاستقلال، وتفاهمات دولية متقاربة المواقف باستثناء رفض روسيا وصربيا على استقلال كوسوفو، وهي كلها قواسم مشتركة غير متوفرة  في الحالة القائمة بين هرجيسا ومقديشو ولم تناقش بعد فيما بينهما طيلة المفاوضات الـ 10 التي مرت بينهما. وينبغي الإشارة إلى أن مبدء حق تقرير المصير المنصوص في القانون الدولي يشترط لانفصال لسكان منطقة ما خاصعة لسلطة دولة معترف بها دوليا، وجود سلطة أجنبية قاهرة في ممارسة حكمها، وتمايز في الهوية والثقاقة والتركيبة السكانية، والتأكد من الاستحالة في التعايش أوالعيش المشترك في ظل سلطة موحّدة والتوافق بين أغلبية الأطياف السياسية أوالمكونات الرئيسية المختلفة في الاستقلال عن الدولة الأصلية والأم، وهو أمرمن الصعب رؤيه أو تحرّيه في قضية هرجيسا وبالذات في مسألة التوافق المجتمعي لأن السلطة المحلية تجرّم خيار الوحدة وتخّون الذين يمارسون على مقتضياتها ولا تسمح بوجود خيارين يتيح للسكان اختيار أحدهما من الآخر .

 تقرير مفوضية الاتحاد الإفريقي   

كان هناك تقريرا انتجته بعثة تقصي الإتحاد الإفريقي الذي زار صومالاند في الفترة ما بين 30 أبريل– 4 مايو عام 2005 . وإعداد التقرير، جاء بناء على طلب ملحّ، كانت هرجيسا تطلبه من مفوضية الاتحاد الإفريقي على مدى عامين متواليين 2003، و2004. والتقرير، يشيدّ المكاسب الميدانية التي حققتها في مجال الأمن والاستقرار وبناء الهيئات المحلية والامكانيات الاقتصادية الكامنة والموارد الطبيعية الواعدة على أراضيها ويصف آثار الدمار الذي لحق بها وينقل رغبة السكان المحليين بالاعتراف الدولي. ويبدو أن مهمة البعثة، أهملت أهمية الزيارة إلى مناطق أخرى في الصومال لنقل وجهات النظر المختلفة في المسألة  وتجاهلت تماما عن الموقف القانوني المرتبط بموافقة الدولة المركزية في أرسال بعثة كهذا على إقليم خاضع على سيادتها الإقليمية. والتقرير يتضمن مغالطات فاضحة في محتواه العام، حيث أنه على سبيل المثل، يؤكد عدم المصادقة على ميثاق الوحدة بين الشمال  والجنوب في فترة الوحدة وهو أمر غير صحيح بالمرّة  نتيجة حدوث ذلك مرتين : مرّة  في الليلة ما قبل الوحدة عن طريق رفع الأيدي، ومرة أخرى في يناير 1961 بعد المساءلة على تطابق المرّة الأولى مع النظام الأساسي المتبع في الاعتمادات القانونية. وإلى جانب ذلك، يشير إلى وجود مظالم سياسية ذات صلة في مسائل تقاسم السلطة ومعاناة إنسانية صعبة ناتجة من تعامل السلطة المركزية في مقديشو إلى الشمال ولكنه لا يقدم أي بيانات محدّدة داعمة على روايته وأرقام مثبتة على صحة المظالم والمعاناة المذكورة في التقرير، وفيه الكثير من أسئلة بلا أجوبة  عن تضمن مسؤولية المفوضية في قيام خطوة كهذا من دون عرضها على المجلس التنفيذي المعني في الاتحاد

وبالإضافة إلى ذلك، يتوقف التقرير عند تباين الفجوة البارزة بين الجنسين في العمل العام والمرافق التعليمية مع تبنيها على النظام الديموقراطي، ويظهر من طريقة  تشكيل البعثة على أن جميع الأ عضاء الخمسة التي تكونت منها البعثة لم يكن من بينهم عضو ممثل من كتلة الدول الإسلامية الـ 19 الأعضاء في الاتحاد الإفريقي والتي تنتمي إليهما الصومال في مظلتهما السياسية الجامعة، ولم ينقل التقرير وجهة نظر أخرى مختلفة غير رواية هارجيسا السياسية التي لم تكن  في حاجة إلى التأكد من وجودها من الأساس بقدر ما كان من المفترض قيامها بعمل استقصائي مهني يقدم رؤية متوازنة مشمولة على روايات أصحاب المصلحة الأساسيين في القضية، مما يعني أن التقرير تضمن كثيرا من الملتبسات التي  تمّس على نزاهة كاتبيه ومصداقية طريقة تخريجه المهني، وتجعل من الصعب اعتباره تقريرا يقدم رؤية صحيحة عن ” مسألة معقدة” على حسب وصف ترمب نفسة، ويوجد فيها الكثير من المختلفين على حجمها الحقيقي وليس على وجودها الأصلي.
ولا أحد يمكن أن ينكر على الاختلالات السياسية التي حدثت في مسألة تقاسم السلطة في الحكم بعد الوحدة والاستقلال في البلاد أو يقدر أن يتجاهل وجود القمع والدمار البالغ التي تعرضت له المنطقة الشمالية من الحكم الفردي العسكري في عهد الثمانينيات، وكذلك وجود نزعة محلية في الانفصال عن دولة الأم  ولكن لم نجد بعد أي دراسات مستقلة تحوّل تلك المظالم  والمآسي الإنسانية إلى بيانات رقمية موثقة بالشكل الصحيح وتبرهن خاصيتها على الشمال دون غيرها من المناطق الأخرى في البلاد وتثبت قاعدة توافق فكرة الانفصال من بين المكونات الرئيسية في نسيجها المجتمعي وتحددّ الجهات المسؤولية المسببّة في القضية وتؤكد براءة رجال هرجيسا من المشاركة في صناعتها وتلك هي المعضلة الأساسية في إمكانية المتابعة والتعاطي معها وتتجسد ملامح تلك المعضلة واضحة أكثر بالنظر إلى مرواحة أرقام الضحايا في الحكم العسكري في الشمال بين 5000 وصولا إلى 20000 ضحية.

المفاوضات والمبررات   

يبلغ عدد الجولات في المفاوضات بـ 10 جولة وراعت معظمها دولتي تركيا وجيبوتي، وبدأت أولها في 2012 في لندن، وتوقفت تلقائيا مع توقيع مذكرة التفاهم الموقعة بين هرجيسا ود. أبي أحمد في أديس أبابا غرة 2024 والتي تمّت بعد يومين فقط من توقيع أخر بيان مشترك بين مقديشو وهرجيسا في جيبوتي يوم 29 من شهر ديسمبر 2023م. والصومال، كانت تتفاوض مع هرجيسا من موقف استيائي على الأضرار الذي لحقت بهما في فترة الحكم العسكري وإيجاد السبل الكفيلة على التجاوز من آلامها الباقية والمطالبة منها بوقف الخطاب العدائي والتعاون معها في التحديات المشتركة بالإضافة إلى الاعتماد على المفاوضات سبيلا للوصول إلى تسوية سياسية متوافقة. وفي مقابل ذلك، كان موقف هرجيسا أحادي  الإتجاه ولم تكن تريد من المفاوضات مع مقديسو سوى منح الاعتراف لها فقط، وتعتبر الحجج التي اعتمدتها في بناء الانفصال مسلّمات غير قابلة للنقاش والمراجعة، وتمنع عضوية البعض في تشكيل الوفد المفاوضات ولا تعير اهتماما على أن مبدأ حق تقرير المصير الدولي هو خاص للشعوب المضطهدة ولايعني مطلقا انفصال إقليم معين من دولة ما مطلقا، ويكون استخدامه وارداً فقط في حال وجود إكراه في الحكم أوتمييز في المعاملة من قبل قوى خارجية مسيطرة على الإقليم الذي يريد الانفصال، ولا يوجد في القانون الدولي بما يسمى بالانفصال الأحادي الجانب، وعلى العكس من ذلك، فإنه يجرّم انفصال إقليم معين عن دولة موحدة بعينها، ويحصن السيادة الإقليمية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وأحد شروط تطبيقه الأساسية هو الحصول على موافقة الدولة التي يريد الإقليم الانفصال عنها بعد التأكد من استدامة الحلول التوفيقية بين الحكومة والإقليم .
وتلجأ الدول المسؤولة في العالم حين رغبتها في اتخاذ قرارالاعتراف عن إقليم خاضع لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة إلى طلب تقارير ذات خلفية تاريخية ومرجعية قانونية بالدرجة الأسياسية للتأكد من دقة السردية المقدمة وصحة المسوغات القانونية المعروضة عليها قبل النظرعلى القيمة الاستراتيجية في الموقع والمكاسب المادية التي يعود منها الدولة على قرارها، وبمعنى آخر، فان الدول تعتمد على قرارتها بناء على بيانات رقمية دقيقة تتوافر فيها المصداقية اللازمة لمصادرها المنتجة، وتكون الجوانب التحليلية في البيانات والاستشارية مع الشركاء والنظر في تجارب سابقة عوامل إضافية على صناعة القرار وليس أساسا لها، وهو أمر من الصعب رؤيته في قضية هرجيسا تحديدا باستثناء المنجزات المشهودة المعروفة في المجالات المذكورة أعلاه والتي تكون على جمعها تشكل عاملا واحدا من بين عدة عوامل أخرى يجب توافرها حين الحسم في قضية مثل هذا، ولهذا نرى تحفظ الدول الرشيدة عن التجاوب مع سعي هرجيسا الملحّ للحصول على الاعتراف رغم التعامل معها سياسيا، وقد تكون أكثر الدول  التي تعيش حالة تردد دائم عن دفع المسألة إلى الأمام هما إثيوبيا وكينيا على عكس ما يعتقده الكثيرون، لأنه من المحتمل أن يشجع هذا مدينتي حيغجيغا  في إثيوبيا وجاريسا في كينيا بمطالبة الانفصال عنهما ويحول دول الإقليم إلى أغلبية صومالية .
ومحاججة هرجيسا في أنه لا يوجد حجة أقوى من الإرادة المجتمعية المحلية القائمة في هرجيسا، ولها مكتسبات ديمقراطية  وتعرضت للإقصاء والتهميش وكذلك العنف الوحشي من قبل الأنظمة الوطنية المتعاقبة في الحكم؛ تراجعت مصداقيتها كثيرا في عهد إدارة موسي بيحي (2017-2024م ) تحديدا، وبالذات في الجزئية الخاصة باللعب على وتر المظلومية والضحية، لأنها مارست ما كانت تتهم به السلطة العسكرية من التدمير والقتل والتهجير القسري لأهالي مدينة  لاسعانود رغم الفارق في الدرجة وليس في النوع ، ومارست الإدارات السابقة إلى الحالية سلوكيات التهميش والاهمال المتراكم لمناطقهم  وهو نفس ما كانت هرجيسا تأخذه على السلطة المركزية في مقديشو سابقا. وتبرّر كثير من التيارات السياسية في محافظتي سول وسناج انسحابهما من مسار الانفصال بأنهما لم تكن شركاء في تأسيس سلطة انفصالية عن الدولة الأم منذ عام 1991م  منذ البداية ومتمسكة على نتائج الاستفتاء القومي الوحيد الذي أجري في أنحاء البلاد عام 1962 في عهد سلطة مدنية منتخبة  وترفض مبدئيا ضرب الوحدة الوطنية  للبلاد، والهيمنة العشائرية في السلطة دون أخرى وتنصل الإدارة السابقة من التفاهمات التي دخلتها مع إدارة “خاتمو” في فترة حكم سيلانيو2016. وهرجيسا تريد الاستئثار لنفسها لتوظيف مبدء حق تقرير المصير في حالة فرضية عمله، وتمنع من غيرها أن يمارسوه كحقّ قانوني مكتسب عند توافر أسبابه ولا تعتبر ذرائع انفصالها  من مقديشو مبررا كافيا لانفصال لاسعانود منها، وتحتج  التواصل والتفاعل بين الصومال والولايات المتحدة  حول  الأمور المتعلقة بالمنطقة الشمالية معلّلة بذلك عدم الحضور الفعلي أوالحكم عليها وتصرّ هي انتماء أهالي ولاية شمال الشرق  إلى سلطتها دون أن يكون لها سلطة ميدانية او فعلية على هذه الأراضي. والإشكالية السائدة في حالتي المفاوضات والمبررات هو، أن الاثنين يشتركان في انعدام إطار عام متفق عليه بينها وبين مقديشو وسيادة أحادية في الرغبة والخيار واعتبار البحث عن الاعتراف في الخارج أكثر أهمية من حصوله بالتفاوض مع دولة الأم ، ورفضها للآخرين عند توافر الأسباب ما ترفضه هي باستمرار في مفاوضاتها المضنية مع مقديشو .

 خاتـــــمــــــــة

أصبحت عودة قضية هارجيسا إلى واجهة الإعلام أمرا اعتياديا في الفترات الأخيرة، والجديد هذه المرة هو إشارة رئيس ترمب الأخيرة بأن إدارته تعمل عليها الآن في القضية، ودخول العالم في مرحلة دخل النظام الدولي المتعارف عليه فيما بعد الحرب العالمية في حالة سكون واحتضار وتراجعت فيه قيمة او اعتبار القانون الدولي مرجعا محتكما على  العلاقات الثنائية بين الدول بدأ من غزو العراق وصولا إلى حربي إيران الأخيرة وغزة الجارية. والاستعمار البريطاني الذي حكم المنطقة لـ 7عقود ارتكب جرائم فظيعة واسعة النطاق بحق الصوماليين الأبرياء القاطنين في شمال البلاد، وإذاكانت مواقف الأنظمة السياسية المتعاقبة في الحكم منقسمة بين عاجز في الفهم للصورة الكلية في القضية ومشعّل في نيرانها، فان بريطانيا هي من زرعت بذورها التي مازالت تنبت في الأراضي الصومالية من فترة إلى أخرى، ولو كانت النهضة الاقتصادية والمناعة الثقافية التي كانت سائدة في فترة ماقبل قدوم الاستعمار أوبدايته الأولى استمرت على تقدمها المطرد، لكانت المنطقة الشمالية مركز القيادة في منطقة القرن الإفريقي بأكملها -على الأقل- بدون منازع. ويكفي النظر إلى أن إجمالي قيمة الصادرات في المنطقة الشمالية انخفضت إلى 158469£ عام 1908بعد أن كانت تصل إلى 392375 £عام 1900، ومنح  36.7% من أراضي المنطقة الشمالية لإثيوبيا بالمجاملة السياسية ناهيك عن محاربته  بالمناعة الثقافية المنيعة التي كانت تتعامل مع الاستعمار في بداياته الأولى من موقع الندية والتحدي والإباء بدلا من اعتبار منح الحقوق الأساسية التي من بينها الاستقلال والحرية تفضلا منه لاحقا .
والانفصال الأحادي المعلن عام 1991 يشكّل انقلابا على روح الكفاح الوطني الذي خاضته الحركة الوطنية الصومالية SNM في الثمانينيات من القرن المنصرم، ويمثل خطا مناقضا على الأهداف ومضمون الوثائق التأسيسية ومفردات خطابها الجبهوي، ويتناقض مع الإرادة الجمعية للأمة الصومالية الواحدة المقسمة سابقا بطريقة جائرة جدا ، ويوجد فيه عتمية كبيرة فيما إذاكان الانفصال مسعى فئويا أم أنه مطلبا مجتمعيا بأسره، وبالإضافة إلى ذلك، فان هرجيسا اعلنت مؤخرا تعليقها على مسار المفاوضات بينها وبين مقديشو، مما يعني فانها تريد مرور خط مختلف عن التجارب التي تريد استرشادها بدأ من تجرية بنجلادش مع باكستان وتيمورالشرقية مع اندونيسيا وصولا إلى جنوب السوادان في 2011م مع السودان، وهو خط غير مسبوق التجربة في الإرادات الإقليمية الطامحة  للانفصال عن دولة الأم.
والتقرير الذي صدر من مفوضية الاتحاد الإفريقي عام 2005 وتعتبره هرجيسا محطة رئيسية في مسعاها الدبلوماسي فيه الكثير من العيوب المشوّهة على المصداقية في محتواه العام والنزاهة المهنية على منتجيه لأنه يتجاهل أمور أساسية في إعداد تقرير على هذ المستوى من الأهمية ومنها نقل الراي الآخر في أصحاب المصلحة  في القضية وأخذ موافقة الدولة التي هي صاحية السيادة على الإقليم في مهمة  كتابة التقرير ومراعاة طبيعة الشمولية في تشكيلة أعضاء البعثة وهي كلها أمورغائبة في صياغة التقرير، ومنُ ثمّ فان التقرير ينكشف فيه أكثر مما هو يدعو إليه أو يحاول تبريرها على تكلّف ظاهر في صياغته. ويبدو أنه يوجد اشكاليات عديدة محيطة على قضية هرجيسا منذ البداية وسرديات سعيها إلى نيل الاعتراف أغلبها سياسية وأحادية الإتجاه ومفتقدة إلى أساس قانوني متماسك وغالبتها معتمدة على رواية تاريخية غير قادرة على الصمود أمام المختبرات المحايدة.
وتراهن هرجيسا في سعيها الحثيث الجديد إلى أمرين مترابطين: فهمها على انتقال القرار السياسي  في الولايات المتحدة من الطابع المؤسساتي المعروف القواعد إلى الطابع الأكثر مركزية في عهد رئيس ترمب الذي هو شخصية نابذه  على البيروقرطية الدولية واستعداد هرجيسا تلقفها على أي عرض يحقق لها الاعتراف بما في ذلك استقبالها على أهالي غزة المراد تهجيرهم قسرا ومنح الولايات المتحدة وحلفائها الإقليمين قواعدعسكرية دائمة الوجود ومهيأة للاستخدام المتعدد الأغراض في عملها. ويتكامل ذلك المسعى مع وجود جهود أخرى سارية ومدفوعة من قبل سينتاتورات جمهورية ومراكز لوبيات معروفة متناسقة مع توصيات صادرة من التقرير المعمول من مركزهوفر التابع لجامعة ستانفورد عام 2023، وقدمته مجموعة من الباحثين الداعمين على رؤية الحزب الجمهوري برئاسة جنداي فريزر. ويدعو هذا التقريرإلى اعتراف واشنطن الأحادي بهرجيسا أسوة باعترافها المسبق في كوسوفو عام 2008، وذلك بناء على المكتسبات الديموقراطية الذي حققته، وضعف احتمالية عودتها إلى خيار الوحدة واستعدادها على العمل في حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، وتقديم حوافزاقتصادية لمقديشو لاحتواء موقفها المبدئي على القضية.

ويضاف إلى هذا فإن الممارسة السياسية للإدارة السابقة بزعامة موسي وضعت في منظومة السردية كلها في المحك الحقيقي لأنها فعلت على أهالي لاسعانود عين مافعله النظام العسكري في هرجيسا رغم الفارق في الدرجة وليس في النوع ورفضت منهم ماكانت هي تطلبها هي من مقديشو بالحاح. والأزمة الصومالية هي فريدة من نوعها نتيجة العوامل المتعددة التي ساهمت في صناعتها في فترات مختلفة، والاستعمار الذي جاء متكاتفا فيما بينه لتقسيم الصومال كان متخوفا من خطورة أمة موحدة متجانسة فيما بينها، وتملك على مساحة أرضية تصل بالمليون ، وتقع كذلك في موقع جيوبوليتيكي متميز على استقرار المنطقة مستقبلا وسلامة التعايش بين هوياته المختلفة في مكوناتها الأصلية، ومن ثمّ فإن التقسيم على أراضيها كان أمراً مدروسا بالعناية والتفكيك فيها مازال أجندة رئيسية تتعاون فيه دول مختلفة لغايات محددة، والجميع يتفق وجود جرائم وفظائع وقعت المنطقة الشمالية في عهد النظام العسكري ولكن عدم اعتبار الجريمة رغم تعدد مصادرها واحدة ووضعها جميعا في قالب موّحد، والتوافق على محاسبة الذين ارتكبوها عمدا يبقى أمرا غير مفهموم السبب وإذا كانت كذلك ارتكاب الجريمة بحق السكان مبررا في الإتجاه نحو الانفصال، فلماذا لا يكون هذا مسموحا للذين يطالبون بها عند تعرضهم للجريمة ذاتها؟ وكيف يعقل أن تكون فترة حكم استعمارية عابرة ومحدودة الزمن تكون سببا لقطع وشائج راسخة بين أمة واحدة، متجانسة، متعاضدة في مواجهتها للتحديات الوجودية التي تواجهها ومظلومة في تاريخها المعاصر الحي. وأظن ان البداية الصحيحية نحو الحلحة في المسألة بين هرجيسا ومقديسو هو قيام الأخيرة بالمراجعة لمسيرة سعيها للاعتراف وجعل الأولى موقفها أكثر جاذبية من وضعيتها الحالية.

سيد عمر معلم عبد الله

مؤرخ ودبلوماسي صومالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى